فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (101):

قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انقضى ذلك على هذا الوجه الأعظم والنظم الأبلغ الأحكم، وكانت هذه القرى بحيث تعرفها العرب ويرونها، أشار إليهم حثًّا على الاعتبار بهم، ولما كان أهلها جديرين بالبعد عنهم والهرب منهم، عبر عنهم بأداة البعد فقال: {تلك القرى} أي محالّ القبائل الخمس، ويجوز أن يكون البعد لعظمة ما حصل لأهلها من العذاب، ويؤيده قوله مبينًا لحالها: {نقص عليك}.
ولما كان العاقل من يكفيه أدنى شيء، هوّل الأمر بأن أخبارها تفوت الحصر، وأن ما قص منها يكفي المعتبر، فقال: {من أنبائها} أي أخبارها العظيمة الهائلة المطابقة للواقع شيئًا بعد شيء كما يفعل من يتتبع الأثر، وأنث الضمير لأن لرؤية القرى أنفسها مدخلًا في معرفة أخبار أهلها.
ولما كان المقام مقام العجب من التكذيب بعد ذلك البيان، كان ربما تخيل متخيل أنهم لم يؤتوا بالبيان الشافي، فشهد الله تعالى للرسل عليهم السلام تصديقًا لمن قال مهم: قد جاءتكم بينة، بقوله: {ولقد} أي والحال أنه قد {جاءتهم} أي أهل القرى لأنهم المقصودون بالذات {رسلهم} أي الذين أرسلناهم إليهم {بالبينات فما} أي فلم يتسبب عن ذلك بسبب طبعنا على قلوبهم إلا أنهم ما {كانوا} موفقين {ليؤمنوا} أي عند مجيئها، وقد أكد منافاة حالهم الإيمان باللام والكون أتم تأكيد {بما} أي بالذي {كذبوا} أي به، وحذفها أدل على الزجر من مطلق التكذيب وأوفق لمقصود السورة.
ولما كان تكذبيهم غير مستغرق للزمان الماضي، أدخل الجارّ فقال: {من قبل} أي قبل مجيء الرسل إليهم أو بتكذيبهم الواقع منهم للرسل فيما أتوا به عن الله من قبل الأخذ بغتة، أو من قبل مجيء الرسل بالآيات، فإنهم أول ما جاؤوهم فاجؤوهم بالتكذيب، فجوزوا على تكذيب الحق من غير نظر في دليل بالطبع على قلوبهم فأتوهم.
بالمعجزات فأصروا على ذلك التكذيب ووقفوا لذلك الطبع مع حظوظهم، ومنعتهم شماختهم وشدة شكائمهم عن الإيمان لئلا يقال: إنهم خافوا أولا فيما وقع منهم من التكذيب فكانوا فيه على غير بصيرة، أو إنهم خافوا ثانيًا ما قرعتهم به الرسل من الوعيد، فدخلوا جبنًا فيما يعلمون بطلانه، فكان تزيين هذا لهم طبعًا على قلوبهم، فكأنه قيل: إن هذا العجب هل يقع في مثل ذلك أحد؟ فقيل: نعم، مثل ما طبعنا على قلوبهم حتى صارت مع الفهم لا تنتفع، فكأنها لا تفهم فكأنها لا تسمع {كذلك يطبع الله} أي الجامع لصفات الكبر ونعوت الجلال بما يجعل من الرين بما له من العظمة {على قلوب الكافرين} أي كل من يغطي ما أعطاه الله من نور العقل بما تدعوه إليه نفسه من الهوى عريقًا في الاتصاف بذلك فيترك آيات الله. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا} قوله: {تِلْكَ} مبتدأ {والقرى} صفة و{نَقُصُّ عَلَيْكَ} خبر، والمراد بتلك القرى قرى الأقوام الخمسة الذين وصفهم فيما سبق، وهم: قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، نقص عليك من أخبارها كيف أهلكت.
وأما أخبار غير هؤلاء الأقوام، فلم نقصها عليك، وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق، فذكرها الله تعالى تنبيهًا لقوم محمد عليه الصلاة والسلام عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال.
ثم عزاه الله تعالى بقوله: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} يريد الأنبياء الذين أرسلوا إليهم وقوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} فيه قولان: الأول: قال ابن عباس والسدي: فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم، فآمنوا كرهًا، وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب.
الثاني: قال الزجاج: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به قبل رؤية تلك المعجزات.
الثالث: ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل إهلاكهم، ونظيره قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأَنعام: 28] الرابع: قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر، فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل أيضًا.
الخامس: ليؤمنوا في الزمان المستقبل.
ثم إنه تعالى بين السبب في عدم هذا القبول فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} قال الزجاج: والكاف في {كذلك} نصب، والمعنى: مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية، يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبدًا والله أعلم بحقائق الأمور. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله عز وجل: {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا} أي تلك القرى التي أهلكنا أهلها، نخبرك في القرآن من حديثها {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} يعني: بالعلامات الواضحة، والبراهين القاطعة، التي لو اعتبروا بها لاهتدوا.
{فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} يعني: إنّ أهل مكة لم يصدقوا بما كذب به الأمم الخالية.
وقال مجاهد: فما كانوا ليؤمنوا بعد العذاب بما كذبوا من قبل وهذا مثل قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون} [الأنعام: 28] وقال السدي: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي يوم الميثاق فما كانوا ليؤمنوا في دار الدنيا بما كذبوا من قبل يوم الميثاق وأقروا به.
وهو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين} [الأعراف: 172] ثم في الدنيا ما وجدناهم على ذلك الإقرار.
ويقال: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} عند مجيء الرسل {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} مجيء الرسل معناه أن مجيء الرسل لم ينفعهم.
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} يعني: هكذا يختم الله تعالى: {على قُلُوبِ الكافرين} مجازاة لكفرهم. اهـ.

.قال الثعلبي:

{تِلْكَ القرى}.
هذه القرى التي ذكرت لك وأهلكناهم وهي قرى نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا} نخبرك أخبارها {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} [بالآيات والعلامات والدلالات] {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} اختلف في تأويله.
قال أُبي بن كعب: معناه فما كانوا ليؤمنوا عند مجئ الرسل بما سبق في علم الله أنّهم يكذّبون به يوم أقرّوا له بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم.
وقال ابن عباس والسدي: يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم حتّى أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرهًا وأقروا باللسان وأظهروا التكذيب.
وقال مجاهد: معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ورددناهم إلى الدنيا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] وقال يمان بن رئاب: هذا معنى أنّ كلّ نبي أخذ قومه بالعذاب ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأُمم الكفار بل كذّبوا كما كذب نظير قوله: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} [الذاريات: 52- 53].
وقيل: معناه: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} يعني بالمعجزات والعجائب التي سألوهم فما كانوا ليؤمنوا بعد ما رأوا الآيات والعجائب بما كذبوا به من قبل رؤيتهم تلك العجائب نظيره قوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 102] {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59].
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} الذين كتب عليهم أن لا يؤمنون من قومك. اهـ.

.قال ابن عطية:

{تلك} ابتداء، و{القرى} قال قوم هو نعت والخبر {نقصّ} ويؤيد هذا أن القصد إنما الإخبار بالقصص.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر عندي أن {القرى} هي خبر الابتداء، وفي ذلك معنى التعظيم لها ولمهلكها، وهذا كما قيل في {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] أنه ابتداء وخبر، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «أولئك الملأ»، وكقول أبي الصلت تلك المكارم وهذا كثير، وكأن في اللفظ معنى التحسر على القرى المذكورة، والمعنى: نقص عليك من أنباء الماضين لتتبين العبر وتعلم المثلات التي أوقعها الله بالماضين ثم ابتدأ الخبر عن جميعهم بقوله: {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام يحتمل أربعة وجوه من التأويل، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما تبين به تكذيبهم من قبل، وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصرامة عليه ويؤيد هذا قوله: {كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليؤمنوا أي ما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا قبل فكان تكذيبهم سببًا لأن يمنعوا الإيمان بعد، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر، بل كفر كلهم ومشى بعضهم عن سنن بعض في الكفر.
قال القاضي أبو محمد: أشار إلى هذا القول النقاش، فكأن الضمير في قوله: {كانوا} يختص بالآخرين، والضمير في قوله: {كذبوا} يختص بالقدماء منهم، والثالث من الوجوه يحتمل أني ريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم وقرنه بقوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] وهذه أيضًا صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر، بل هي غاية في ذلك، والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى أنهم مكذبون به، فجعل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لاسيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرسل، وذكر هذا التأويل المفسرون وقرنوه بأن الله عز وجل حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق، وهو قول أبي بن كعب. اهـ.